يؤكّد الباحث البروفيسور بومدين بوزيد على فتح باب الاجتهاد من أجل هوية مفتوحة على المستقبل، بعيدا عن بعض القضايا متجاوزة علمياً وحضارياً.
وفي حوار مع «الشعب أونلاين»، يعود إلى جذور تشكّل الهوية الدينية لبلادنا بفقهها المالكي وعقيدتها الأشعرية وطريقة الجنيد. ويقول إن تلك الهوية لم يطرأ عليها أي تجديد بالمعنى الاجتهادي، رغم نشاط جماعات «الإسلام السياسي» التي حاولت بطرق مختلفة الوصول إلى الحكم، وإعادة صياغة التاريخ الديني من جديد.
الشعب أونلاين: «المالكية»، «الأشعرية»، و»الجنيدية»، هل فعلا تُشكِّل أبعاد الهوية الدينية للجزائر؟
** الباحث البروفيسور بومدين بوزيد: هذه الثّلاثية انتماء مذهبي وعَقَدي نشترك فيه مع بلدان مغاربية وإفريقية، ونتّفق في بعض عناصرها مع بلدان إسلامية أخرى، وهي موروث ديني وثقافي اختصره بيت محفوظ من نَظم فقهي معروف لعبد الواحد بن عاشر (ت1040هـ):
في عَقْدِ الأشعري وفِقْه مالكِ
وفي طَريقةِ الجُنيْد السّالِك
هذا البيت النّظمي يُلخِّص الثّلاثية الفقهيّة والعَقديّة والسّلوكيّة التي أطّرَت الذّهنيّة المغاربية، وحافظت على طبيعة انسجامه الدّيني والاجتماعي، وقد لعبت السّلطة السّياسية تاريخياً في ترسيمها، بلغتنا اليوم دَسْترتها، وهي لم تتشكّل دُفعة واحدة وفي زمن محدّد بل عرفت تطوّرات وكان التأسيس الفقهي (المالكية) مرتبطاً بالنّزعة الأموية في الأندلس والولاء للأمويين عند أجدادنا في بعض الحِقب نظراً لعلاقة إمام دار الهجرة فقيه المدينة المنوّرة بالسّلطة الأموية في المشرق قبل تأسيس عبد الرحمان الداخل للحكم الجديد في الأندلس، وقد كان الإمام مالك مُعجباً به وبابنه هشام الرّضا الأمير الأموي، الذي حَرص على نشْر المذهب المالكي ومن بعده ابنه الحكم وقال عنهم – أي الفقيه مَالِك – للوافدين عليه من الأندلس قصد طَلب العلم: «نسأل الله أن يُزيّن حَرَمنا بمثل مَلِكِكم (حاكمكم)»، ومن أسباب هذه العلاقة السّياسية المذهبيّة أن مالكاً أفتى بالتحلّل من بيعة العبّاسيين، والانضمام لمحمد النّفس الزكية، أحد أحفاد علي بن أبي طالب، حسب ما يرى بعض المؤرّخين.
قبل هذا عرفنا المذهب الحنفي في عهد الأغالبة بإفريقيا (تونس) وشرق الجزائر، أما في تيهرت (تيارت) فقامت الدّولة الرّستمية وكان فقهها فقه جابر ين زيد وعقيدتها تتّفق في جُلّها مع المعتزلة، وهنا وجَبت الإشارة أنّ القَول بالانتماء الدّيني والثّقافي الثّلاثي لا يعني إقصاء «الإباضية» التي استمرّت معنا ولو في مجال جغرافي ولغوي وعِرقي محدّد منذ القرن الثاني الهجري، وقد ساهم علماؤها ومفكِّروها في النّهضة والإصلاح في الجزائر، وامتد تأثيرهم إلى بُلدانٍ إسلامية أخرى مثل تراث أبي يعقوب الورجلاني (الورقلي) قديماً والشيخ أبي إسحاق اطفيش وبيوض من المعاصرين.
«الجـــــزأرة» انقلبــــوا علــــى الأشعريــــــــــة وشَربــــــــــوا العقيــــــــــدة الطحاويـــــــــة
* يقال إنّ تلك الهوية صيغت زمن دولة المرابطين، وقيل زمن الموحدين، كيف حدثت تلك التوليفة؟
** يقصدون هنا تشكّل العقيدة الأشعرية، أما الفقه المالكي ففي عصر المرابطين كان منتشراً لأن الجزائريين والمغاربة عرفوه منذ نهاية القرن الثاني الهجري من خلال تلامذة الأمام مالك وتلامذة تلامذته، أما العنصر الأخير من الثلاثية (التّصوف) فبمعنى الزّهد تلازم مع الوفود العلمية الأولى التي جاءت للقيروان، وهي سِمة صوفيّة لم تتحوّل إلى مؤسّسة دينية إلا في زمن ما عرف فيما بعد بالطُّرقية (الزّوايا، التكايا) ويمكن تحديد ذلك بالقرن الثالث عشر ميلادي فقد أورد ابن مرزوق التلمساني في «المسند الصحيح» إشارة إلى ذلك، ويمكن اعتبار تراث أبي مدين الغوث وامتداده عبر تلامذته في بجاية (القرن السابع الهجري) وخصوصاً محي الدّين بن عربي تياراً صوفيّاً فلسفياً (عرفانياً) كان رافداً داخل الحركة الصوفية الجزائرية تمّ إعادة إحيائه من خلال الأمير عبدالقادر الجزائري والشيخ أحمد العلوي (العلاوية) ومحمد بن سليمان المستغانمي الندرومي، أي أن التّصوف في الجزائر عرف تطورات وروافد داخله، أمّا ما يسمى «الزوايا» و»الطّرقية» فهي متأخرة في الظُّهور، وهناك خلط غريب اليوم في النّقاش والوسائط الاتصالية بين التصوف والزوايا والطرقية وزيارة الأضرحة، وحتى استعمال كلمة «زوايا» قد نعني بها في بعض مناطقنا «المدارس القرآنية».
من حيث ترتيب الثلاثيّة يمكن ترتيب ذلك بالفقه والزهد ثم الأشعرية ثم الطرقية والزوايا، وهنا ترتيب إجرائي يتعلق بالتّشكُّل التاريخي والانتشار، أما انصهارهم كانتماء فكان مع نهاية الدولة الموحدية وتم ترسيم ذلك في العهد الزياني والتركي، أما الأشعرية فعرفت ازدهارها زمن الموحدين لكون شيخها ومُنظرها المهدي بن تومرت هو من نشر مبادئها وعلّمها للمغاربة وبلسانهم الأمازيغي إذ مازالت «المرشدة» الوثيقة الايديولوجية إلى اليوم مخطوطة بالأمازيغية، ولكن تأثير الأشعرية عُرف قبل هذا من خلال البعثات المغاربية التي جلست في حلقات الباقلاني ومنهم بوعمران الفاسي، وبعد الدولة الموحدية اشتهرت عندنا «عقيدة السنوسي» محمد بن يوسف التلمساني، وهي العقائد الثلاثة والقصد هنا النّصوص التي ألَّفها للنُّخبة والعامّة وكان نموذجاً للذي استطاع أن يجمع بين التصوف وعلم العقائد، وبالتالي ستكون المختصرات بعد ذلك والمنهاج الدراسي التقليدي يبدأ بالتوحيد والتصوف قبل الفقه، على اعتبار أنّ شَرطا العبادة الصحيحة طهارة القلب واستقامة السلوك.
أرض المغـــــرب كانـــــت تستقبـــــل المظلـــــــــــومين والمضطهــديــــــن سياسيــــــــاً
* هل ما تزال تلك الهوية تعبّر عن الواقع، أم أصبحت من الماضي أمام زحف «الحنبلية الجديدة»؟
** طبعاً لم يطرأ عليها تجديد بالمعنى الاجتهادي إذا استثنينا ما قام به المصلحون في نهاية القرن التاسع عشر والقرن العشرين، أو التيار الإصلاحي داخل المجال الصوفي منذ أحمد زروق البرنسي الذي كان شيخاً للملياني وانتقد الخرافة والانحراف في التصوف في زمنه والشيخ الفكون القسنطيني أيضاً دخل في معارك مع بعض المتصوفة ثم الشيخ الحدّاد الذي كتب «تقييد التصوف» في نقده لما شاب الإسلام وابن باديس وجمعية العلماء، أما في الفقه والأشعرية فشكّل التّرسيم عامل وحدة الأمة، ولكنه أيضاً جمّد حركة التفكير والاجتهاد وربما نستثني بعض المحاولات الاجتهادية التي أوردتها كتب النوازل، أعتقد أن طبيعة المجتمع والنظام السياسي كانا لهما الأثر وقد لاحظ ذلك بعقلية نقديّة ابن خلدون في مقدمته وألفريد بيل في كتابه عن «المذاهب والفِرق في شمال إفريقيا»، طبعا قد يتلمس بعضهم دعوات هنا أو هناك للخروج من الثلاثيّة أو من بعض عناصرها ولكنها كانت حِصناً من الناحية الوظيفية التاريخية زمن الاحتلال أما من الناحية العلمية والحضارية فتلك مسألة أخرى. وهنا وجبت الإشارة إلى أنّنا نُخلط بين الوظائف السياسية والمعرفية والحضارية، فنفسيّة الدّفاع والاحتماء قد تكون لها فعاليّة تجاه اختراق الآخر لنا ولكن قد تؤدي إلى الجمود والتقهقر إذا لم يكن الانفتاح والاجتهاد، أما بخصوص ما أسميته بـ «الحنبليّة الجديدة» فالتحصّن المبالغ فيه بالانتماء لهذه الثلاثية قد تكون «حنبليّة» أيضاً بالمعنى التمسك الحرفي والتشدّد، أما إذا كان القصد «الوهابيّة – الحنبلية – التّيمية»، فقد تأثّر بها التزاما وجهراً عضوٌ واحدٌ فقط من أعضاء جمعيّة العلماء المسلمين قبل أن تصبح تيّاراً في التسعينات بالخصوص مع تعدّد أطيافها، وشكّلت مواجهة شرسة مع ثلاثيّة الجزائريين مستمّرة إلى اليوم.
* وماذا عن تيارات «الإسلام السياسي»، هل هي عامل مساعد للهوية أم هي تنويعات على «الحنبلية الجديدة» التي لا تعترف بالتعدد؟
** جماعات ما يسمّى الإسلام السياسي فيها ما كان في البدء لا يطرح الخِلاف مع بعض عناصر الثلاثية الموروثة ثم تخلّى عن ذلك مثل تيار الجزأرة، الذي نشأ مستوحياً بعض أفكار مالك بن نبي ثم انقلب على الأشعرية وشَرب العقيدة الطحاوية، أما الخِلاف مع التصوف والطرقية فكان واضحاً منذ البداية، والإخوان المسلمون عاشوا مسالمين مع هذه الثلاثية بعد تشكلهم السياسي، لكن في بداية نشوئهم كانت كتب حسن البنا وسعيد حوى تتعايش مع الخصوصيات المذهبية في كل منطقة، غير أن اعتماد بعض جماعاتهم على كتاب «فقه السنّة» للسيد سابق والقول إن المذاهب الفقهية أحدثت الشّقاق والخلاف مع المسلمين أدخلهم في صراع مع أئمة بعض المساجد، فهم يهمّهم الإرشاد والإصلاح وعند طيف آخر السّلطة، وهم أكثر تعايش وبعضهم التزاماً بالهوية الثلاثية، ومنهم من تربّى في حجورهم اليوم يتولّى مناصب عليا ويدافع استماتة عن هذه الثلاثية، أما التيارات الأخرى الجهادية فاعتمدت التّكفير للأشاعرة والمتصوفة، والتزمت بحرفيّة النّصوص، وربما عدم إدراك بعضهم لخصوصية هذه الهوية الثلاثية كونها شعبية وشكلت وعي الجماهير هي سبب فشلهم في الامتداد والتأثير ومنها الجبهة الإسلاميّة للإنقاذ التي كانت توليفة فكرية غير متناسقة فقهياً وعقدياً هي النموذج على ذلك.
التصـــــوف معرفــــــــــة وسلــــوك تحــــوّل إلـــــي مؤسســــة
* قبلها كانت هذه البلاد أرضا لأول دولة «خارجية»، وبعدها أول دولة شيعية في العالم، كيف حدث هذا الاستقطاب؟ وهل قدر الجزائر تبّني المذاهب الوافدة والتأثر بها؟
** هذا دليل على أننا لم نعرف مذهبا واحداً، وكانت أرض المغرب مساحة للحرث الفكري والثقافي لأنها كانت تستقبل المظلومين والمضطهدين سياسياً، لكن كيف استطاع ميراث هذه الدول التي قامت وأشرت إليها في سؤالك أن يستمر ويتكيّف مع الثلاثية (مالك والأشعرية والتصوف) سواء من خلال الوعي الشعبي أو اللقاء في مستوى عنصر من عناصرها مثل «المالكية والإباضية» في الفقه، ولقاء ميراث الشيعي – الإسماعيلي وثقافة الأشراف وتقديس آل البيت الموروثة من الدولة الإدريسية والسّليمانية مع التصوف في الوعي الشعبي وبعض التقاليد الاجتماعية، هذه طبيعة الميراث الثقافي في التكيّف والتغيير أو الخروج عن المعهود في مراحل تاريخية معينة، ونذكر مثال دولة الموحدين في بدايتها حين استعانت بالأشعرية وبفكرة المهدي المعلوم الشيعية في تقويض دولة المرابطين ثقافياً وسياسياً، أي أن الوظيفة التاريخية والسياسية للثقافة والتقاليد هي التي تعطي لها الحياة وليس منهجها أو علميتها.
* أمام هذا الصّراع المذهبي ترتفع أصوات تنادي بـ «الأمن الديني»، كيف نحافظ على هذا الأمن في زمن العولمة التي لا تعترف بالحدود؟
** كان منتظرا من العولمة ومفهوم مجتمعات المعرفة والثورة الرقمية والثورات العربية أن تنتهك الخصوصيات الحضارية وتعبث بها وتزول تدريجياً لكن ما حدث أن هذه الخصوصية شكّلت قلاع مقاومة وإعادة التعريف بها وانتشارها صورة، ومع التطرف والحركات الجهادية كانت العودة إلى «المرجعية العقدية والمذهبية» لأن بعضهم يرى في ذلك توسطاً واعتدالاً لكون التعايش الذي عرفناه رغم شعبيته، ولا علميته أحياناً ولكنه لم يكن داعياً لقتل الآخرين وإقصائهم، ولكن هذا يستدعي اجتهادا وتطويراً للخصوصية الدينية والثقافية والأمن الديني أو الثقافي الحقيقي هو الاجتهاد والبحث عن ما يبقى معنا صالحاً والانفتاح على الآخرين، وجائحة كورونا أرجعتنا إلى إعادة التأصيل لـ «فقه الطوارئ أو الكوارث»، وهناك اليوم قضايا البيئة وحقوق الإنسان والحيوان والجينوم والتكنولوجيات الرقمية تحتاج إلى «فقه نوازل جديدة»، وإلى رؤية قد تستلهم نصوصاً لم نلتفت إليها، كما أن موقفنا من الأديان والثقافات الأخرى مازالت تحكمه رؤية الشهرستاني وابن حزم والبغدادي وهي رؤية متلبسة بإحراجات عصرهم .
* في وقت عجزت فيه هذه البلاد عن إبداع مذاهب فقهية، نجحت في الطرق الصوفية، على غرار التيجانية وغيرها. لماذا لم نستفد من هذا الأمر؟
** الطرقية ليست فقهاً وإنما هي مؤسّسات دينية اجتماعية وجماعات تنتظم عبر أوراد والتزامات، ولها شيخ له كاريزما التوجيه والتأثير، وبعضها للأسف تحوّل إلى وراثة للأبناء لارتباط ذلك بالميراث الوقفي العائلي، وبعضها لازال له دوره في تحفيظ القرآن الكريم وتدريس العلوم، وتحول بعضها إلى سجِّل سياسي وتجاري، وهذا يستدعي إلى إعادة المرافقة لتنظيمها مع ترك الحرية لها من أجل وظائفها التاريخية الإنسانية في التربية والعلم والصلح وفعل الخير، وكما قلت لك ليس التصوف هي الزوايا والطرقية، فالتصوف معرفة وسلوك تحوّل بسبب عوامل تاريخية إلى مؤسسة، وهذا التفريق ضروري اليوم. وكما جاء في سؤالك يمكن استثمار هذه المؤسسات في العمل الخيري والفعل المدني والسياحي إلى جانب وظائفها الروحية، واعتبارها مؤسسات للتعايش ونشر قيم الوسطية والاعتدال، ولكن هذا يحتاج إصلاحاً وتدخُّل الدّولة في بعض الجوانب التنظيمية.
* أخيرا، هل من الممكن التفكير في إعادة صياغة هوية دينية جديدة، من خلال تجديد الفكر الديني؟
** يمكن تعديل عبارتك بالتجديد والاجتهاد من أجل أن تعيش معنا هويتنا، ونعيش بها مع غيرنا ومستقبلنا، فلا يمكن اليوم أن نكرّر قضايا عند الأشاعرة أصبحت متجاوزة علمياً وحضارياً، ولكن يمكن أن تكون قضايا جسراً للتعايش والوسطية مثل رفض القول بان مرتكب الكبيرة كافر، أو قولهم «لا نكفِّر أهل القِبْلة» وحتى بعض آرائهم تجاوزها بعض أتباعهم في زمنهم، أما في الفقه المالكي فقد خرجت عنه الوزارة المعنية في بعض القضايا البسيطة، وهنا أودّ القول علينا أن نفكر في «الخصوصية الدينية والثقافية» عموما من حيث الالتزام بروحها وليس بتفاصيل موضوعاتها، أما إبداع مذاهب أخرى فيمكن أن يكون لكن ليس بالقصد الطائفي ولكن كاجتهاد، وأنتم تلاحظون كيف حتى التصوف تحوّل عند طائفة الأحباش إلى تكفير الآخرين، أي أن منحى التطرف والتّشدّد ليس ملازما لمذهب دون آخر، فيمكن أن يكون في مرحلة تاريخية معينة حينما يكون الغلق والتوظيف السياسي المُفرط.